ISRAA Admin
عدد المساهمات : 385 تاريخ التسجيل : 23/04/2010 very good
| موضوع: باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد داود وسليمان وقبل زكريا ويحيى الثلاثاء 18 مايو 2010, 7:20 pm | |
| قََََََصَصُ الأنْبِيَاءِ
للإمام ابن الحافظ ابن كثير
ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام ممن لا يعلم وقت زمانهم على التعيين إلا أنهم بعد داود وسليمان عليهما السلام وقبل زكريا ويحيى عليهما السلامفمنهم شعيا بن أمصيا. قال محمد بن إسحاق: وكان قبل زكريا ويحيى وهو ممن بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام.وكان في زمانه ملك اسمه حزقيا على بني إسرائيل ببلاد بيت المقدس، وكان سامعاً مطيعاً لشعيا فيما يأمره به وينهاه عنه من المصالح، وكانت الأحداث قد عظمت في بني إسرائيل، فمرض الملك وخرجت في رجله قرحة، وقصد بيت المقدس ملك بابل في ذلك الزمان وهو سنحاريب. قال ابن إسحاق: في ستمائة ألف راية.وفزع الناس فزعاً عظيماً شديداً. وقال الملك للنبي شعيا: ماذا أوحى الله إليك في أمر سنحاريب وجنوده؟ فقال: لم يوح إليّ فيهم شيء بعد. ثم نزل عليه الوحي بالأمر للملك حزقيا بأن يوصي ويستخلف على ملكه من يشاء، فإنه قد اقترب أجله. فلما أخبره بذلك أقبل الملك على القبلة فصلى وسبح ودعا وبكى، فقال هو يبكي ويتضرع إلى الله عز وجل بقلب مخلص وتوكل وصبر: اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا رحمن يا رحيم، يا من لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك فأنت أعلم به من نفسي، سري وإعلاني لك.قال: فاستجاب الله له ورحمه، وأوحى الله إلى شعيا أن يبشره بأنه قد رحم بكاءه، وقد أخر في أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوه سنحاريب. فلما قال له ذلك ذهب منه الوجع وانقطع عنه الشر والحزن وخر ساجداً وقال في سجوده: اللهم أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزعه ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، عالم الغيب والشهادة، فأنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين.فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا أن يأمره أن يأخذ ماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ويصبح قد برئ. ففعل ذلك فشفي. وأرسل الله على جيش سنحاريب الموت، فأصبحوا وقد هلكوا كلهم سوى سنحاريب وخمسة من أصحابه، منهم بختنصر، فأرسل ملك بني إسرائيل فجاء بهم، فجعلهم في الأغلال، وطاف بهم في البلاد على وجه التنكيل بهم، والإهانة لهم، سبعين يوماً، ويطعم كل واحد منهم كل يوم رغيفين من شعير، ثم أودعهم السجن، وأوحى الله تعالى إلى شعيا: أن يأمر الملك بإرسالهم إلى بلادهم، لينذروا قومهم ما قد حلّ بهم، فلما رجعوا جمع سنحاريب قومه وأخبرهم بما قد كان من أمرهم فقال له السحرة والكهنة: إنا أخبرناك عن شأن ربهم وأنبيائهم فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوفهم الله به. ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين.قال ابن إسحاق: ثم لما مات حزقيا ملك بني إسرائيل مرج أمرهم، واختلطت أحداثهم، وكثر شرهم، فأوحى الله تعالى إلى شعيا، فقام فيهم، فوعظهم وذكّرهم، وأخبرهم عن الله بما هو أهله، وأنذرهم بأسه وعقابه إن خالفوه وكذبوه. فلما فرغ من مقالته عَدوا عليه، وطلبوه ليقتلوه، فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له، فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها فلما رأوا ذلك جاءوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها ونشروه معها فإنا لله وإنا إليه راجعون.ومنهم أرميا بن حلقيا من سبط لاوى بن يعقوبوقد قيل إنه الخضر. رواه الضحاك عن ابن عباس. وهو غريب وليس بصحيح.قال ابن عساكر: جاء في بعض الآثار أنه وقف على دم يحيى بن زكريا وهو يفور بدمشق فقال: أيها الدم فتنت الناس فاسكن. فسكن ورسب حتى غاب.وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني عليّ بن أبي مريم، عن أحمد بن حباب، عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال أرميا: أي رب... أي عبادك أحب إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكراً، الذين يشتغلون بذكري عن ذكر الخلائق، الذين لا تعرض لهم وساوس الفناء ولا يحدثون أنفسهم بالبقاء، الذين إذا عرض لهم عيش الدنيا قلوه وإذا زوى عنهم سروا بذلك، أولئك أنحلهم محبتي وأعطيهم فوق غاياتهم.ذكر خراب بيت المقدس وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً، ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً، وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً، إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً، عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً}.وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا حين ظهرت فيهم المعاصي: أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوباً ولا يفقهون، وأعيناً ولا يبصرون، وآذاناً ولا يسمعون، وإني تذكرت صلاح آبائهم، فعطفني ذلك على أبنائهم، فسلهم كيف وجدوا غِبَّ طاعتي، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي، وهل شقي أحد ممن أطاعني بطاعتي؟ إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها وإن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه آباءهم، والتمسوا الكرامة من غير وجهها، أما أحبارهم فأنكروا حقي، وأما قراؤهم فعبدوا غيري، وأما نُساكهم فلم ينتفعوا بما علموا، وأما ولاتهم فكذبوا عليَّ وعلى رسلي، خزنوا المكر في قلوبهم وعودوا الكذب ألسنتهم وإني أقسم بجلالي وعزتي لأهيجن عليهم جيولاً لا يفقهون ألسنتهم ولا يعرفون وجوههم ولا يرحمون بكاءهم، ولأبعثن فيهم ملكاً جباراً قاسياً له عساكر كقطع السحاب، ومواكب كأمثال الفجاج، كأن خفقان راياته طيران النسور، وكأن حمل فرسانه كَرُّ العقبان، يعيدون العمران خراباً، ويتركون القرى وحشة، فيا ويل إيليا وسكانها، كيف أذللهم للقتل، وأسلط عليهم السبا، وأعيد بعد لجب الأعراس صراخاً، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد شُرفات القصور مساكن السباع، وبعد ضوء السرج وهج العجاج، وبالعز الذل وبالنعمة العبودية، وأبدلن نساءهم بعد الطيب التراب، وبالمشي على الزرابي الخبب، ولأجعلن أجسادهم زبلاً للأرض، وعظامهن ضاحية للشمس، ولأدوسنهم بألوان العذاب، ثم لآمرن السماء فتكون طبقاً من حديد، والأرض سبيكة من نحاس، فإن أمطرت لم تنبت الأرض، وإن أنبتت شيئاً في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم، ثم أحبسه في زمان الزرع، وأرسله في زمان الحصاد، فإن زرعوا في خلال ذلك شيئاً سلطت عليه الآفة، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة، فإن دعوني لم أجبهم، وإن سألوا لم أعطهم، وإن بكوا لم أرحمهم، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم.رواه ابن عساكر بهذا اللفظ.وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا إدريس، عن وهب بن منبه، قال: إن الله تعالى لما بعث أرميا إلى بني إسرائيل وذلك حين عظمت الأحداث فيهم فعملوا بالمعاصي، وقتلوا الأنبياء، طمع بختنصر فيهم، وقذف الله في قلبه، وحدَّث نفسه بالمسير إليهم، لما أراد الله أن ينتقم به منهم، فأوحى الله إلى أرميا: أني مهلك بني إسرائيل، ومنتقم منهم، فقم على صخرة بيت المقدس يأتيك أمري ووحيي. فقام أرميا فشق ثيابه وجعل الرماد على رأسه وخر ساجداً وقال: يا رب.. وددت أن أمي لم تلدني حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل فيكون خراب بيت المقدس وبوار بني إسرائيل من أجلي. فقال له: ارفع رأسك. فرفع رأسه فبكى، قال: يا رب من تسلط عليهم؟ فقال: عبدة النيران، لا يخافون عقابي، ولا يرجون ثوابي، قم يا أرميا فاستمع وحيي أخبرك خبرك وخبر بني إسرائيل: من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك. ومن قبل أن تبلغ نبأتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك، ولأمر عظيم اجتبيتك، فقم مع الملك تسدده وترشده، فكان مع الملك يسدده، ويأتيه الوحي من الله حتى عظمت الأحداث، ونسوا ما نجاهم الله به من عدوهم سنحاريب وجنوده، فأوحى الله إلى أرميا: قم فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمتي عليهم وعرفهم أحداثهم. فقال أرميا: يا رب.. إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لم تبلغني، مخطئ إن لم تسددني، مخذول إن لم تنصرني، ذليل إن لم تعزني. فقال الله تعالى: أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي وأن الخلق والأمر كله لي، وأن القلوب والألسنة كلها بيدي، فأقلبها كيف شئت فتطيعني، فأنا الله الذي ليس شيء مثلي، قامت السماوات والأرض وما فيهن بكلمتي، وإنه لا يخلص التوحيد ولم تتم القدرة إلا لي، ولا يعلم ما عندي غيري، وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها ففعلت أمري، وحددت عليها حدوداً فلا تعدو حدي، وتأتي بأمواج كالجبال فإذا بلغت حدي ألبستها مذلةً لطاعتي، وخوفاً واعترافاً لأمري، وإني معك، ولن يصل إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي، لتبلغهم رسالاتي، فتستوجب لذلك أجر من اتبعك، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. انطلق إلى قومك فقم فيهم وقل لهم: إن الله قد ذكركم بصلاح آبائكم، فلذلك استبقاكم، يا معشر أبناء الأنبياء، وكيف وجد آباؤكم مغبة طاعتي، وكيف وجدتم مغبة معصيتي، وهل وجدوا أحداً عصاني فسعد بمعصيتي، وهل علموا أحداً أطاعني فشقي بطاعتي؟ إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها، وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة، وتركوا الأمر الذي أكرمت به آباءهم وابتغوا الكرامة من غير وجهها.فأما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولاً يتعبدونهم ويعملون فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري وأنسوهم ذكري وسنتي وغروهم عني فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتي.وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، وغرتهم الدنيا، حتى نبذبوا كتابي، ونسوا عهدي، فهم يحرفون كتابي، ويفترون على رسلي، جرأة منهم عليَّ، وغرةً بي، فسبحان جلالي، وعلو مكاني، وعظمة شأني، هل ينبغي أن يكون لي شريك في ملكي؟ وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي؟ وهل ينبغي لي أن أخلق عباداً أجعلهم أرباباً من دوني أو آذن لأحد بالطاعة لأحد وهي لا تنبغي إلا لي؟!وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون، فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني، ويطيعونهم في معصيتي، ويوفون لهم بالعهود الناقضة لعهدي، فهم جهلة بما يعلمون، لا ينتفعون بشيء مما علموا من كتابي.وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون، يخوضون مع الخائضين، يتمنون مثل نصرى آباءهم، والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم، بغير صدق منهم ولا تفكر، ولا يذكرون كيف كان صبر آباءهم، وكيف كان جهدهم في أمري، حين اغتر المغترون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم فصبروا وصدقوا، حتى عز أمري، وظهر ديني. فتأنيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون مني ويرجعون، فتطولت عليهم، وصفحت عنهم فأكثرت، ومددت لهم في العمر وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون. وكل ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية، وأظهرهم على العدو، ولا يزدادون إلا طغياناً وبعداً مني فحتى متى هذا؟ أبى يسخرون، أم بي يتحرشون، أم إياي يخادعون، أم عليّ يجترئون.فإني أقسم بعزتي لأتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحكيم، ويضل فيها رأي ذوي الرأي وحكمة الحليم، ثم لأسلطن عليهم جباراً قاسياً عاتياً ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل الليل المظلم، له فيه عساكر مثل قطع السحاب ومواكب مثل العجاج، وكأن خفيق راياته طيران النسور وحمل فرسانه كسرب العقبان، يعيدون العمران خراباً والقرى وحشاً ويعثون في الأرض فساداً ويتبرون ما علوا تتبيراً، قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون ولا يرحمون ولا يبصرون ولا يسمعون، يجولون في الأسواق بأصوات مرتفعة مثل زئير الأسد تقشعر من هيبتها الجلود وتطيش من سمعها الأحلام بألسنة لا يفقهونها ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها. فوعزتي لأعطلن بيوتهم من كتبي وقدسي ولأخلين مجالسهم من حديثها ودروسها ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير الدين ويتعلمون فيها لغير العمل، لأبدلن ملوكها بالعز الذل وبالأمن الخوف وبالغنى الفقر وبالنعمة الجوع وبطول العافية والرخاء ألوان البلاء، وبلباس الديباج والحرير مدارع الوبر والعباء، وبالأرواح الطيبة والأدهان جيف القتلى، وبلباس التيجان أطواق الحديد والسلاسل والأغلال، ثم لأعيدن فيهم بعد القصور الواسعة والحصون الحصينة الخراب، وبعد البروج المشيدة مساكن السباع، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد ضوء السراج دخان الحريق، وبعد الأنس الوحشة والقفار، ثم لأبدلن نساءها بالأسورة الأغلال وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد، وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار، وبالمشي على الزرابي عبور الأسواق والأنهار والخبب إلى الليل في بطون الأسواق وبالخدور والستور الحسور عن الوجوه والسوق والأسفار والأرواح السموم ثم لأدوسنهم بأنواع العذاب حتى لو كان الكائن منهم في حالق لوصل ذلك إليه، إني إنما أكرم من أكرمني وأهين من هان عليه أمري. ثم لآمرن السماء خلال ذلك فلتكونن عليهم طبقاً من حديد ولآمرن الأرض فلتكونن سبيكة من نحاس فلا سماء تمطر ولا أرض تنبت. فإن أمطرت خلال ذلك شيئاً سلطت عليهم الآفة، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة وإن دعوني لم أجبهم وإن سألوني لم أعطهم وإن بكوا لم أرحمهم وإن تضرعوا إليّ صرفت وجهي عنهم، وإن قالوا اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا برحمتك وكرامتك، وذلك بأنك اخترتنا لنفسك وجعلت فينا نبوتك وكتابك ومساجدك ثم مكنت لنا في البلاد واستخلفتنا فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغاراً وحفظتنا وإياهم برحمتك كباراً فأنت أوفى المنعمين وإن غيرنا، ولا تبدل وإن بدلنا وأن تتم فضلك ومنك وطولك وإحسانك. فإن قالوا ذلك قلت لهم إني أبتدئ عبادي برحمتي ونعمتي، فإن قبلوا أتممت وإن استزادوا زدت وإن شكروا ضاعفت وإن غيروا غيرت، وإذا غيروا غضبت، وإذا غضبت عذَّبت وليس يقوم شيء بغضبي.قال كعب: فقال أرميا: بوجهك أصبحت أتعلم بين يديك وهل ينبغي ذلك لي وأنا أذل وأضعف من أن ينبغي لي أن أتكلم بين يديك ولكن برحمتك أبقيني لهذا اليوم وليس أحد أحق أن يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد مني بما رضيت به مني طولاً والإقامة في دار الخاطئين وهم يعصونك حولي بغير نكر ولا تغيير مني، فإن تعذبني فبذنبي وإن ترحمني فذلك ظني بك. ثم قال: يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت ربنا وتعاليت، أتهلك هذه القرية وما حولها وهي مساكن أنبيائك ومنزل؟ وحيك يا رب سبحانك وبحمدك تباركت ربنا وتعاليت لمخرب هذا المسجد وما حوله من المساجد ومن البيوت التي رفعت لذكرك، يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت وتعاليت لمقتل هذه الأمة وعذابك إياهم وهم من ولد إبراهيم خليلك وأمة موسى نجيك وقوم داود صفيك، يا رب أي القرى تأمن عقوبتك بعد، وأي العباد يأمنون سطوتك بعد ولد خليلك إبراهيم وأمة نجيك موسى وقوم خليفتك داود تسلط عليهم عبدة النيران.قال الله تعالى: يا أرميا.. من عصاني فلا يستنكر نقمتي، فأني إنما أكرمت هؤلاء القوم على طاعتي، ولو أنهم عصوني لأنزلتهم دار العاصين، إلا أن أتداركهم برحمتي.قال أرميا: يا رب اتخذت إبراهيم خليلاً وحفظتنا به، وموسى قربته نجياً فنسألك أن تحفظنا ولا تتخطفنا ولا تسلط علينا عدونا. فأوحى الله إليه: يا أرميا إني قدستك في بطن أمك وأخرتك إلى هذا اليوم، فلو أن قومك حفظوا اليتامى والأرامل والمساكين وابن السبيل لكنت الداعم لهم وكانوا عندي بمنزلة جنة ناعم شجرها طاهر ماؤها ولا يغور ماؤها ولا تبور ثمارها ولا تنقطع، ولكن سأشكو إليك بني إسرائيل: إني كنت لهم بمنزلة الراعي الشفيق أجنبهم كل قحط وكل عسرة وأتبع بهم الخصب حتى صاروا كباشاً ينطح بعضهم بعضاً، فيا ويلهم ثم يا ويلهم، إنما أكرم من أكرمني وأهين من هان عليه أمري. إن من كان قبل هؤلاء القوم من القرون يستخفون بمعصيتي وإن هؤلاء القوم يتبرعون بمعصيتي تبرعاً فيظهرونها في المساجد والأسواق وعلى رؤوس الجبال وظلال الأشجار حتى عجَّت السماء إليَّ منهم وعجَّت الأرض والجبال ونفرت منها الوحوش بأطراف الأرض وأقاصيها، وفي كل ذلك لا ينتهون ولا ينتفعون بما علموا من الكتاب.قال: فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم وسمعوا ما فيها من الوعيد والعذاب عصوه وكذبوه واتهموه وقالوا: كذبت وأعظمت على الله الفرية فتزعم أن الله معطل أرضه ومساجده من كتابه وعبادته وتوحيده؟ فمن يعبده حين لا يبقى له في الأرض عابد ولا مسجد ولا كتاب؟! لقد أعظمت الفرية على الله واعتراك الجنون. فأخذوه وقيدوه وسجنوه، فعند ذلك بعث الله عليهم بختنصر فأقبل يسير بجنوده حتى نزل بساحتهم ثم حاصرهم فكان كما قال تعالى: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} قال: فلما طال بهم الحصر نزلوا على حكمه ففتحوا الأبواب وتخللوا الأزقة وذلك قوله: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} وحكم فيهم حكم الجاهلية وبطش الجبارين، فقتل منهم الثلث وسبى الثلث وترك الزمنى والشيوخ والعجائز، ثم وطئهم بالخيل وهدم بيت المقدس وساق الصبيان وأوقف النساء في الأسواق حاسرات، وقتل المقاتلة وخرب الحصون وهدم المساجد وحرق التوراة، وسأل عن دانيال الذي كان قد كتب له الكتاب فوجدوه قد مات وأخرج أهل بيته الكتاب إليه وكان فيهم دانيال بن حزقيل الأصغر وميشائيل وعزرائيل وميخائيل، فأمضى لهم ذلك الكتاب. وكان دانيال بن حزقيل خلفاً من دانيال الأكبر ودخل بختنصر بجنوده بيت المقدس ووطئ الشام كلها وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، فلما فرغ منها انصرف راجعاً وحمل الأموال التي كانت بها وساق السبايا فبلغ معه عدة صبيانهم من أبناء الأحبار والملوك تسعين ألف غلام، وقذف الكناسات في بيت المقدس وذبح فيه الخنازير وكان الغلمان سبعة آلاف غلام من بيت داود، وأحد عشر ألفاً من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط ايشى بن يعقوب، وأربعة عشر ألفاً من سبط زبالون ونفتالي ابني يعقوب، وأربعة عشر ألفاً من سبط دان بن يعقوب، وثمانية آلاف من سبط يستاخر بن يعقوب، وألفين من سبط زيكون بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبل ولاوى، واثني عشر ألفاً من سائر بني إسرائيل.وانطلق حتى قدم أرض بابل.قال إسحاق بن بشر: قال وهب بن منبه: فلما فعل ما فعل قيل له: كان لهم صاحب يحذرهم ما أصابهم ويصفك وخبرك لهم ويخبرهم أنك تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم وتهدم مساجدهم وتحرق كنائسهم، فكذبوه واتهموه وضربوه وقيدوه وحبسوه. فأمر بختنصر فأخرج أرميا من السجن فقال له: أكنت تحذر هؤلاء القوم ما أصابهم؟ قال: نعم قال: فإني علمت ذلك. قال: أرسلني الله إليهم فكذبوني قال: كذبوك وضربوك وسجنوك؟ قال: نعم. قال: بئس القوم قوم كذبوا نبيهم وكذبوا رسالة ربهم، فهل لك أن تلحق بي فأكرمك وأواسيك وإن أحببت أن تقيم في بلادك فقد أمنتك. قال له أرميا: إني لم أزل في أمان الله منذ كنت لم أخرج منه ساعة قط، ولو أن بني إسرائيل لم يخرجوا منه لم يخافوك ولا غيرك ولم يكن لك عليهم سلطان. فلما سمع بختنصر هذا القول منه تركه فأقام أرميا مكانه بأرض أيليا.وهذا سياق غريب، وفيه حكم ومواعظ وأشياء مليحة، وفيه من جهة التعريب غرابة.وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: كان بختنصر أصفهبذاً لما بين الأهواز إلى الروم للملك على الفرس وهو لهراسب، وكان بنى مدينة بلخ التي تلقب بالخنساء، وقاتل الترك وألجأهم إلى أضيق الأماكن وبعث بختنصر لقتال بني إسرائيل بالشام فلما قدم الشام صالحه أهل دمشق، وقد قيل إن الذي بعث بختنصر إنما هو بهمن ملك الفرس بعد بشتاسب بن لهراسب، وذلك لتعدي بني إسرائيل على رسله إليهم.وقد روى ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، أن بختنصر لما قدم دمشق وجد دماً يغلي على كباّ يعني القمامة، فسألهم ما هذا الدم؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر. قال: فقتل على ذلك سبعين ألفاً من المسلمين وغيرهم فسكن.وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب، وقد تقدم من كلام الحافظ بن عساكر ما يدل على أن هذا دم يحيى بن زكريا، وهذا لا يصح لأن يحيى بن زكريا بعد بختنصر بمدة، والظاهر أن هذا دم نبي متقدم أو دم لبعض الصالحين أو لمن شاء الله ممن الله أعلم به.قال هشام بن الكلبي: قدم بختنصر بين المقدس فصالحه ملكها وكان من آل داود وصانعه عن بني إسرائيل وأخذ منه بختنصر رهائن ورجع، فلما بلغ طبرية بلغه أن بني إسرائيل ثاروا على ملكهم فقتلوه لأجل أنه صالحه، فضرب رقاب من معه من الرهائن ورجع إليهم فأخذ المدينة عنوة، وقتل المقاتلة وسبى الذرية.قال: وبلغنا أنه وجد في السجن أرميا النبي فأخرجه وقص عليه ما كان من أمره وإياهم وتحذيره لهم عن ذلك فكذبوه وسجنوه فقال بختنصر: بئس القوم قوم عصوا رسول الله وخلى سبيله وأحسن إليه واجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا ونحن نتوب إلى الله عز وجل مما صنعنا، فادع الله أن يقبل توبتنا، فدعا ربه فأوحى الله إليه أنه غير فاعل، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة. فأخبرهم ما أمره الله تعالى به، فقالوا: كيف نقيم بهذه البلدة وقد خربت وقد غضب الله على أهلها! فأبوا أن يقيموا.قال ابن الكلبي: ومن ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل في البلاد فنزلت طائفة منهم في الحجاز وطائفة يثرب وطائفة وادي القرى، وذهبت شرذمة منهم إلى مصر، فكتب بختنصر إلى ملكها يطلب منه من شرد منهم إليه فأبى عليه، فركب في جيشه فقاتله وقهره وغلبه وسبى ذراريهم ثم ركب إلى بلاد المغرب حتى بلغ أقصى تلك الناحية. قال: ثم انصرف بسبي كثير من أرض المغرب ومصر وأهل بيت المقدس وأرض فلسطين والأردن وفي السبي دانيال.قلت: والظاهر أن دانيال بن حزقيل الأصغر لا الأكبر. على ما ذكره وهب بن منبه. والله أعلم.ذكر شيء من خبر دانيال عليه السلام قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أحمد بن عبد الأعلى الشيباني قال: إن لم أكن سمعته من شعيب بن صفوان فحدثني بعض أصحابنا عنه، عن الأجلح الكندي عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال ضرَا بختنصر أسدين فألقاهما في جب، وجاء بدانيال فألقاه عليهما فلم يهيجاه، فمكث ما شاء الله ثم اشتهى ما يشتهي الآدميون من الطعام والشراب، فأوحى الله إلى أرميا وهو بالشام: أن أعدد طعاماً وشراباً لدانيال فقال: يا رب أنا بالأرض المقدسة ودانيال بأرض بابل من أرض العراق. فأوحى الله إليه أن أعدد ما أمرناك به فإنا سنرسل من يحملك ويحمل ما أعددت، ففعل وأرسل إليه من حمله وحمل ما أعده حتى وقف على رأس الجب فقال دانيال: من هذا؟ قال: أنا أرميا. فقال: ما جاء بك؟ فقال: أرسلني إليك ربك. قال: وقد ذكرني ربي؟ قال: نعم. فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي يجيب من رجاه، والحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحساناً، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة، والحمد لله الذي يكشف ضُرَّنا بعد كربنا، والحمد لله الذي يقينا حين يسوء ظننا بأعمالنا، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل عنا.وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن أبي خالد بن دينار، حدثنا أبو العالية قال: لما افتتحنا تَسْتر وجدنا في مال بيت الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن هذا فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيركم وأموركم ولحُون كلامكم وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حضرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس فلا ينبشونه قلت: فما يرجون منه قال: كانت السماء إذا حبست عنهم "المطر" برزوا بسريره فيمطرون قلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال. قلت: منذ كم وجدتموه قد مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة قلت: ما تغير منه شيء قال: إلا شعرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع.وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية، ولكن إن كان تاريخ وفاته محفوظاً من ثلاثمائة سنة فليس بنبي بل هو رجل صالح، لأن عيسى بن مريم ليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم... بنص الحديث الذي في البخاري، والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة، وقيل ستمائة، وقيل ستمائة وعشرون سنة، وقد يكون تاريخ وفاته من ثمانمائة سنة وهو قريب من وقت دانيال، إن كان كونه دانيال هو المطابق لما في نفس الأمر، فإنه قد يكون رجلاً آخر إما من الأنبياء أو الصالحين، ولكن قَربت الظنون أنه دانيال لأن دانيال كان قد أخذه ملك الفرس فأقام عنده مسجوناً كما تقدم.وقد روي بإسناد صحيح إلى أبي العالية أن طول أنفه شبر، وعن أنس بن مالك بإسناد جيد أن طول أنفه ذراع، فيحتمل على هذا أن يكون رجلاً من الأنبياء الأقدمين قبل هذه المدد، والله تعالى أعلم.وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب أحكام القبور: حدثنا أبو بلال محمد بن الحارث بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري حدثنا أبو محمد القاسم بن عبد الله، عن أبي الأشعث الأحمري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن دانيال دعا ربه عز وجل أن تدفنه أمة محمد، فلما افتتح أبو موسى الأشعري تستر وجده في تابوت تضرب عروقه ووريده، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من دلَّ على دانيال فبشروه بالجنة. فكان الذي دل عليه رجل يقال له حرقوص فكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بخبره فكتب إليه عمر: أن ادفنه وابعث إليَّ حرقوص فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة.وهذا مرسل من هذا الوجه وفي كونه محفوظاً نظر والله أعلم. ثم قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو بلال، حدثنا قاسم بن عبد الله عن عنبسة بن سعيد، وكان عالماً، قال: وجد أبو موسى مع دانيال مصحفاً وجرَّة فيها ودك ودراهم وخاتمه، فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: أما المصحف فابعث به إلينا، وأما الودك فابعث إلينا منه ومر من قبلك من المسلمين يستشفون به، واقسم الدراهم بينهم، وأما الخاتم فقد نفلَّناكه.وروى ابن أبي الدنيا من غير وجه أن أبا موسى لما وجده وذكروا له أنه دانيال التزمه وعانقه وقبله، وكتب إلى عمر يذكر له أمره وأنه وجد عنده مالاً موضوعاً قريباً من عشرة آلاف درهم وكان من جاء اقترض منها فإن ردها وإلا مرض وإن عنده ربَعْة فأمر عمر أن يغسل بماء وسدر ويكفن ويدفن ويخفى قبره فلا يعلم به أحد، وأمر بالمال أن يرد إلى بيت المال، وبالربعة فتحمل إليه ونفله خاتمه.وروي عن أبي موسى أنه أمر أربعة من الأسراء فسكرَوا نهراً وحفروا في وسطه قبراً فدفنه فيه، ثم قدَّم الأربعة الأسراء فضرب أعناقهم فلم يعلم موضع قبره غير أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن عبد الله، حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: رأيت في يد ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري خاتماً نقش فصه أسدان بينهما رجل يلحسان ذلك الرجل، قال أبو بردة: وهذا خاتم ذلك الرجل الميت الذي زعم أهل هذه البلدة أنه دانيال أخذه أبو موسى يوم دفنه. قال أبو بردة: فسأل أبو موسى علماء تلك القرية عن نقش ذلك الخاتم فقالوا: إن الملك الذي كان دانيال في سلطانه جاءه المنجمون وأصحاب العلم فقالوا له: إنه يولد كذا وكذا غلام يَعور ملكك ويفسده، فقال الملك: والله لا يبقى تلك الليلة غلام إلا قتلته. إلا أنهم أخذوا دانيال فألقوه في أجمة الأسد فبات الأسد ولبؤته يلحسانه ولم يضراه. فجاءت أمه فوجدتهما يلحسانه فنجاه الله بذلك حتى بلغ ما بلغ قال أبو بردة: قال أبو موسى: قال علماء تلك القرية: فنقش دانيال صورته وصورة الأسدين يلحسانه في فص خاتمه لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك.إسناد حسن.ذكر عمارة بيت المقدس بعد خرابها وهذا ذكر عمارة بيت المقدس بعد خرابها واجتماع الملأ من بني إسرائيل بعد تفرقهم في بقاع الأرض وشعابهاقال الله تعالى في كتابه المبين وهو أصدق القائلين: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.قال هشام بن الكلبي: ثم أوحى الله تعالى إلى أرميا عليه السلام فيما بلغني: إني عامر بيت المقدس فاخرج إليها فانزلها. فخرج حتى قدمها وهي خراب، فقال في نفسه: سبحان الله أمرني الله أن أنزل هذه البلدة وأخبرني أنه عامرها فمتى يعمرها ومتى يحييها الله بعد موتها!ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة من طعام فمكث في نومه سبعين سنة حتى هلك بختنصر والملك الذي فوقه وهو لهراسب، وكان ملكه مائة وعشرين سنة وقام بعده ولده بشتاسب بن لهراسب، وكان موت بختنصر في دولته فبلغه عن بلاد الشام أنها خراب وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين فلم يبقى بها من الإنس أحد، فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل: أن من شاء أن يرجع إلى الشام فيرجع. وملك عليهم رجلاً من آل داود وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها فرجعوا فعمروها وفتح الله لأرميا عينيه فنظر إلى المدينة كيف تبنى وكيف تعمر، ومكث في نومه ذلك حتى تمت له مائة سنة. ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة وقد عهد المدينة خراباً فلما نظر إليها عامرة آهلة قال {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.قال: فأقام بنو إسرائيل بها ورد الله عليهم أمرهم فمكثوا كذلك حتى غلبت عليهم الروم في زمن ملوك الطوائف، ثم لم يكن لهم جماعة ولا سلطان يعني بعد ظهور النصارى عليهم. هكذا حكاه ابن جرير في تاريخه عنه وذكر ابن جرير أن لهراسب كان ملكاً عادلاً سائساً لمملكته، قد دانت له العباد والبلاد والملوك والقواد وأنه كان ذا رأي جيد في عمارة الأمصار والأنهار والمعاقل، ثم لما ضعف عن تدبير المملكة بعد مائة سنة ونيف نزل عن الملك لولده بشتاسب، فكان في زمانه ظهور دين المجوسية، وذلك أن رجلاً اسمه زرادشت كان قد صحب أرميا عليه السلام فأغضبه فدعا عليه أرميا عليه السلام فبرص زرادشت، فذهب فلحق بأرض أذربيجان، وصحب بشتاسب، فلقنه دين المجوسية الذي اخترعه من تلقاء نفسه، فقبله منه بشتاسب، وحمل الناس عليه، وقهرهم، وقتل منهم خلقاً كثيراً ممن أباه منهم.ثم كان بعد بشتاسب بهمن بن بشتاسب، وهو من ملوك الفرس المشهورين، والأبطال المذكورين، وقد ناب بختنصر لكل واحد من هؤلاء الثلاثة وعمر دهراً طويلاً قبحه الله.والمقصود أن هذا الذي ذكره ابن جرير من أن هذا المار على هذه القرية هو أرميا عليه السلام قاله وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وغيرهما. وهو قوي من حيث السياق المتقدم، وقد روي عن علي وعبد الله بن سلام وابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسلمان بن بردة وغيرهم أنه عزير. وهذا أشهر عند كثير من السلف والخلف والله أعلم. | |
|